المواطن/ ثقافة
مقال لجورج أورويل نشر عام 1944
ترجمة/ هدى فضل
بعض أحداث هذا الكتاب مستحيلة، وبعضها أُعيد ترتيبه، والبعض الآخر قُدِّم بطريقة رومانسية نوعًا ما، كما مُحيت أي إهانات تعرَّض لها دالي، بل حتى «اعتيادية» الحياة اليومية قد مُحيت تمامًا. فـدالي – كما شخَّص نفسه – مُصابٌ بمرض النرجسية أو الإعجاب بالذات، وسيرته الذاتية ليست سوى مشهد تعرٍ صوّر تحت إضاءة فسفورية ووردية. على أي حال، وبفضل حالة الـ«انحراف» التي انتشرت في عصر الآلة، فقد اكتسبت السيرة الذاتية لسالفادور دالي قيمة عظيمة.
إليكم إذًا بعض المواقف من حياة دالي، ولا يهم حقًا أيُّها حقيقي، وأيُّها خيالي، لأنها تمثِّل كل ما كان دالي يرغب في تحقيقه.
عندما كان في السادسة من عمره، كانت هناك ضجَّة بخصوص «مذنب هالي»، قال: «فجأة، ظهر أحد موظفي أبي على باب غرفة الرسم، وأعلن إمكانية مشاهدة المذنب من الشرفة ]…[ وأثناء مروري بالصالة، لمحتُ أختي الصغيرة ذات الثلاثة أعوام وهي تزحف عبر الباب المفتوح. توقفتُ. ترددتُ لثانية، ثم ركلتُها بعنفٍ في رأسها كأنها كرة، ثم ركضتُ وأنا أشعر بـ«نشوة غامرة» نتيجة لذلك الفعل الوحشي. لكن أبي، الذي كان خلفي، أمسك بي وقادني إلى مكتبه وعاقبني بالبقاء هناك حتى موعد الغداء».
قبل حدوث ذلك بسنة، قام دالي «فجأة، مثل معظم أفكاري»، بدفع طفل صغير من فوق جسر معلق. ذكرت حوادث عديدة مشابهة في سيرته الذاتية، مثل؛ إيقاعه بفتاة على الأرض وركلها ووطئها بقدميه «حتى اضطر الناس إلى نزعها وهي تنزف بعيدًا عن متناولي». حدثت تلك الواقعة عندما كان في التاسعة والعشرين من عمره. وعندما كان في الخامسة، وجد خفاشًا مصابًا، فوضعه داخل بطرمان من الصفيح. في الصباح التالي، وجد الخفّاش مشرفًا على الموت وقد غطَّاه النمل مفترسًا إيَّاه. قام دالي بوضع الخفَّاش بالنمل داخل فمه وقضمه حتى كاد يقسمه إلى نصفين.
أمَّا عندما كان في سن المراهقة، وقعت فتاة في حبه بجنون. كان دالي يقبِّلها ويداعبها لكي يثيرها لأقصى درجة ممكنة، وعندما يحدث هذا، يرفض إكمال ما بدأه. حيث قرر الاستمرار معها على هذا المنوال لخمس سنوات (سماها بـ«الخطة الخمسية») ليستمتع بإذلالها والإحساس بالقوة الذي يستمدها منها. كما اعتاد إخبارها اعتزامه التخلي عنها بعد خمس سنوات، وعندما انتهت المدة، تركها بالفعل.
استمر كذلك بالاستمناء حتى عندما أصبح رجلًا بالغًا، حيث أحب القيام بالأمر، على ما يبدو، أمام المرآة. ولسبب ما ظل عاجزًا جنسيًا حتى بلوغه الثلاثين من عمره. وعندما قابل زوجته المستقبلية، جالا، لأول مرة شعر برغبة شديدة في إلقائها من فوق جرفٍ ما. أحس بأن هناك شيئًا ما تريده أن يفعله بها، وبعد قبلتهما الأولى، اعترفت له، حيث كتب يقول: «جذبتُ رأس جالا من شعرها للخلف، وأمرتها وأنا أرتعش بفعل الهستيريا الكاملة: «الآن أخبريني بما تريدين مني فعله بكِ! أخبريني ببطء. انظري في عينَي، وأخبريني ما تريدين بأكثر الكلمات فظاظة وأكثرها شهوانية. كلمات يمكنها أن تشعرنا نحن الاثنين بالخجل عند سماعها!». حينها، تحوَّل بريق المتعة في عينيها إلى ضوء قاسٍ عكس طغيانها الداخلي، وأجابتني قائلة: «أريدك أن تقتلني».
شعر دالي بنوعٍ من خيبة الأمل عندما أمرته بهذا، لأنه بالفعل ما أراد فعله بها. بدأ بالتفكير في إلقائها من أعلى برج الجرس بكاتدرائية توليدو، لكنه امتنع عن القيام بهذا.
وخلال الحرب الأهلية الإسبانية، تجنَّب دالي بذكاء الانحياز لأحد الأطراف المتحاربة، وسافر إلى إيطاليا. هناك شعر بالانجذاب المتزايد للطبقة الأرستقراطية، فأخذ يتردد على الصالونات الأدبية، ونجح في أن يجد له رعاة أغنياء، كما التُقِطت له الصور مع المخرج الفرنسي فيكوم دو نوايي، الذي وصفه دالي بـ«مايكيناس» الخاص به والذي كان من أكثر المستشارين قربًا من الإمبراطور أغسطس.وعندما اقتربت الحرب العالمية الثانية، لم يشغله سوى شاغل واحد: أن يجد مكانًا به مطبخ جيد ويسهل الهروب منه سريعًا في حالة اقتراب الخطر. هكذا قرر الهرب إلى بوردو بفرنسا، لكن حين نشبت معركة فرنسا واحتلت ألمانيا فرنسا، هرب إلى إسبانيا. ظل دالي في إسبانيا مدة كافية لجمع ما يحتاجه من قصص معادية للشيوعية، وفي النهاية اتجه إلى أمريكا ليتحوَّل إلى شعلة من الاحترام. فعندما بلغ دالي السابعة والثلاثين من عمره، أصبح زوجًا مخلصًا، وشُفي من انحرافاته، أو بعض انحرافاته، كما تصالح تمامًا مع وجود الكنيسة الكاثوليكية. إضافة إلى أنه جنى الكثير من المال.
لكن على الرغم من كل هذا، ظل يشعر بالفخر بلوحاته السريالية، والتي أعطاها أسماء مثل: «المستمني العظيم»، و«جمجمة لوطي مع بيانو»، إلخ. بالطبع سنجد صورًا لهذه اللوحات بطول سيرته الذاتية كلها. العديد من لوحات دالي – ببساطة – من الفن التمثيلي، كما أنها تحمل بعض المواصفات التي يمكن أخذها في الاعتبار لاحقًا. لكن، أكثر ما يمكن استنتاجه من لوحاته وصوره السريالية، هما شيئين: الانحراف الجنسي، واشتهاء الجثث. فدالي نجح في تحويل بعض الأشياء العادية إلى رموز تحمل مدلولات جنسية؛ مثل الخف ذي النعل العالي، والعكَّاز، وكوب اللبن الدافئ. هذه الأشياء – أو الرموز – تتكرر كثيرًا في أعماله، هناك أيضًا عنصر مميز متكرر في أعماله. فعن لوحته «اللعبة الحزينة» (Le Jeu Lugube)، يقول:
إن الأدراج المُغطاة بالبراز رُسِمت برضا كامل عن كل التفاصيل الدقيقة بها لدرجة أن جميع زملائي من السرياليين القلة تعذبوا لكي يعرفوا إجابة سؤال واحد: هل هو آكل للبراز أم لا؟
أضاف دالي مؤكدًا أنه ليس بآكلٍ للبراز، وبأنه اعتبر هذا الشذوذ «مقرفًا»، لكن يبدو أن هذه هي الحالة الوحيدة التي توقف فيها عن اهتمامه بالبراز. حتى عندما مر بتجربة مشاهدة امرأة تتبول واقفة، وجد نفسه مُجبرًا على أن يضيف بأنها قد فشلت في «التصويب» ولطَّخت حذاءها.
يستحيل الادعاء أن شخصًا واحدًا قد يحمل كل المثالب الممكنة، فدالي أعلن على الملأ أنه ليس شاذًا جنسيًا، لكن يبدو أن لديه مخزونًا من الانحرافات الجيدة التي يتمنى الناس امتلاكها.
على أي حال، يمكننا القول إن أكثر صفاته وضوحًا هي «اشتهاء الجثث necrophilia»، حيث اعترف – بصراحة شديدة – بذلك، وادَّعى أنه قد شُفي من المرض. لكن، تتكرر الوجوه الميتة، والجماجم، وجثث الحيوانات، والنمل الذي التهم الخفَّاش المحتضر كثيرًا في لوحاته. ففي إحدى اللوحات، نرى جثة وقد نُبِشت من قبرها، ومتحللة تمامًا. وفي لوحة أخرى، نرى جثة حمارٍ متحللة فوق بيانو، وظهرت تلك اللوحة في الفيلم السريالي «الكلب الأندلسي» أو La Chien Andalou. وبالطبع، تذكَّر دالي تلك الحمير بحماسٍ شديد. يقول:
أنا من صمم مرحلة التحلل للحمير باستخدام قدور كبيرة من الصمغ والذي سكبته فوق جثثهم. قمتُ كذلك بفقع أعينهم وتوسيعها باستخدام المقص. بالطريقة نفسها، قطعت أفواههم بعنفٍ لتظهر صفوف أسنانهم بصورة أوضح، وأضفت العديد من الأفكاك لكل فم، لكي تبدو الحمير – على الرغم من أنهم قد تعفَّنوا بالفعل – كأنها تتقيأ القليل من «موتهم»، وفوق تلك الصفوف من الأسنان، وضعت أسنانًا من مفاتيح البيانو السوداء.
هناك أيضًا لوحة «مانيكان متعفن في سيارة أجرة» (Mannequin Rotting in a Taxicap). ففوق وجه الفتاة وصدرها المنتفخين، زحفت حيوانات حلزون عملاقة. وفي وصف الصورة، كتب دالي يقول، إن حيوانات الحلزون الحمراء من النوع الصالح للأكل.
بالطبع، في هذا الكتاب – الذي يتكون من 400 صفحة، وكل صفحة مقسمة إلى أربعة صفوف – يوجد أكثر ممَّا استشهدتُ به حتى الآن، ومع هذا لا أظن أني ظلمتُ حالة دالي الأخلاقية أو العقلية. إن سيرته الذاتية ببساطة منفِّرة. فلو كان من الممكن أن يصدر كتاب رائحة كريهة من بين صفحاته، لفعله هذا الكتاب، وهي فكرة لربما أسعدت دالي؛ ففي أوَّل موعدٍ غرامي مع زوجته المستقبلية، دهن جسده كله بمرهم مصنوع من مخلفات الماعز المغلي في الصمغ المصنوع من مخلفات السمك. لكن، على الرغم من كل هذا، علينا أن نتذكر أن دالي رسَّامٌ ذو موهبة استثنائية، وهو أيضًا – بالحكم على دقة التفاصيل بأعماله – رجل مجتهد. صحيح أنه محب للاستعراض وصاحب طموح مهني كبير، إلا أنه ليس محتالًا. فهو يمتلك موهبة أكبر خمسين مرة من معظم الناس الذين يهاجمون أخلاقياته ويسخرون من لوحاته.
كل ما في الأمر أنك تقف أمام اعتداء صريح على العقلانية والاحترام، وحتى على الحياة نفسها، وهو ما تفعله بعض لوحات دالي التي تميل إلى تسميم المخيلة تمامًا كالبطاقات البريدية التي تحمل صورًا إباحية. إن ما فعله دالي وما تخيله يقبل المناقشة، ولكن انطلاقًا من وجهة نظره للحياة ومن شخصيته، فإن صفة احترام الذات التي يتصف بها الإنسان الطبيعي لا وجود لها عنده. فذلك الرجل غير اجتماعي تمامًا. وبالطبع، فأناس مثله لا يرغب أحد في مخالطتهم، والمجتمع الذي قد يتمكنون من الازدهار فيه، هو مجتمع غير طبيعي بالمرة.
[…] لكن، إذا تحدثت مع نوعية الأشخاص التي يمكنها رؤية مزايا دالي، فإن الرد الذي ستحصل عليه منهم لن يكون مقنعًا بأي حال من الأحوال، كما أنه لن يصبح قاعدة عامة. فأنت إن قلت إن دالي – على الرغم من كونه رسامًا بارعًا – وغد صغير وقذر، فسيعتبرك هؤلاء متخلفًا. أمَّا إذا قلت إنك لا تحب الجثث المتعفنة، فسيفسرون موقفك بالافتقار إلى الحس الجمالي؛ لأن لوحة «مانيكان متعفِّن في سيارة أجرة» هي حقًا لوحة جيدة. وبين هذا وذاك، لن تجد مكانًا يتقبَّل رأيك. فمن ناحية، ستقابلنا «البلشفية الثقافية – Cultural Bolshevism»، ومن الناحية الأخرى، ستقابلنا جملة «الفن للفن» (على الرغم من أن هذا التعبير قد عفى عليه الزمان)، وسنجد كذلك أن مفهوم «الفُحش» يصعب مناقشته للغاية؛ فبعض الناس سيُصدمون عند مطالبتهم بتعريفٍ للعلاقة بين الفن والأخلاق الجيدة.
هناك مصطلح في القانون الإنجليزي يُسمى «امتياز رجل الدين» أو Benefit of Clergy، بمعني أحقية رجل الدين في المطالبة بألا تتم محاكمته أمام المحاكم العامة، وأن تتولى المحكمة الكنسية الأمر. يمكننا إذَا أن نقول إن ما يدَّعيه المدافعون عن دالي هو نوع من امتياز رجل الدين. فالفنَّان يستطيع أن يتحرر من القوانين الأخلاقية التي تقيد الرجل العادي. كل ما عليك فعله هو نطق الكلمة السحرية: فن، وكل شيء سيصبح مقبولًا: ركل الفتيات الصغيرات في رؤوسهن مقبول، وحتى فيلم مثل «عصر الذهب – The Age of Gold» مقبول. ومن المقبول أيضًا بقاء دالي في فرنسا سنوات عدة ثم الهرب كالفأر ما إن تتعرض فرنسا إلى خطر. فطالما تستطيع أن ترسم جيدًا بما يكفي لاجتياز الاختبار، فستُغفر كل خطاياك.
لكن إذا طبقنا هذا المبدأ على الجرائم الأقل خطورة، فسنتأكد من مدى خطئه. ففي عصر كعصرنا هذا، وعندما يكون الفنان شخصًا غير عادي بالمرة، يسمح له المجتمع بكم معين من عدم تحمُّل المسؤولية، تمامًا كما نفعل مع المرأة الحامل. لكن، لا يمكن لأحد أن يبرر لامرأة حامل ارتكابها جريمة قتل، أي أننا لا يمكننا أن نسامح فنانًا على ارتكابه لجريمة ما مهما كان موهوبًا. فلو عاد شكسبير إلى عالمنا غدًا، واكتشفنا بأن هوايته المفضلة هي اغتصاب الفتيات الصغيرات في عربات القطار، فلن نشجعه على الاستمرار في هذا الأمر بحجة احتمالية كتابته مسرحية أخرى في عظمة “الملك لير”. لكن، لا بد أن نعترف بأن أفظع الجرائم لا يُعاقب الجاني فيها دائمًا؛ إذًا، لا بد أن يتمكن المرء من أن يضع في حسبانه حقيقتين: أن دالي رسَّام بارع، وإنسان مقزز. كل من الصفتين لا تبطل الأخرى، ولا تؤثر إحداهما بالسلب على الأخرى.
فالشيء الأول، الذي نريده من أي حائط هو الوقوف. فإذا وقف، صار حائطًا جيدًا، أمَّا السؤال المتعلق بالفائدة المرجوة من بناء الحائط في المقام الأول فلا أهمية لها هنا. مع هذا فإن أفضل حائط في العالم يستحق أن يُهدم إذا أحاط بمعسكر اعتقال. إذا اتبعنا المنطق نفسه، فسنقول: «إن كتابًا جيدًا أو أن صورة ما جيدة، لكن يجب حرقهما علنًا»؛ إمَّا أن نمتلك القدرة على قول هذه الجملة صراحة – أو أن نقولها حتى في مخيلتنا – وإلا فإننا سنصبح متهربين من كل ما يترتب على حقيقة أن الفنَّان هو أيضًا مواطن وإنسان.
لا أقصد طبعًا منع السيرة الذاتية لدالي أو لوحاته من النشر أو العرض. فباستثناء البطاقات البريدية التي تحمل صورًا إباحية وكانت تُباع في موانئ مدن البحر المتوسط، فليس من اللائق أن نتبع سياسة «ممنوع من النشر» مع كل شيء آخر. بخصوص هذا، يجب علينا الاعتراف بأن أحلام دالي الخرافية سلطت الضوء على تداعي الحضارة الرأسمالية. لكن، إن ما يحتاجه دالي هو التشخيص. فالسؤال الذي يجب طرحه هنا ليس «ماذا يكون هذا الرجل؟» بل «لماذا هو هكذا؟». وعلينا ألا نشك في أن ذكاءه ليس سوى ذكاء مريض، وهو ما لم يتغير كثيرًا حتى مع تغيره المزعوم واعترافاته الصادقة، فالناس الذين يعودون إلى حالتهم العقلانية، لا يتباهون بخطاياهم القديمة بذلك الرضا التام. إن دالي عَرَضٌ من أعراض المرض الذي أصاب هذا العالم. المهم في الأمر هو ألا نقوم بنبذه باعتباره وغدًا يستحق الجلد، ولا حتى الدفاع عنه بحجة أنه عبقري لا يجوز مناقشة أفعاله. إن المهم هو معرفة سبب قيامه بتلك المجموعة الغريبة من التصرفات المنحرفة.
في الغالب سنجد الإجابة في لوحاته، لكنني لستُ خبيرًا بما يكفي لكي أحللهم. ما يمكنني فعله هو الإشارة إلى دليل واحد ربما يقربنا من الإجابة قليلًا. يلجأ دالي إلى النمط الإدواردي في الرسم – الذي يميل إلى الزخرفة الزائدة – عندما لا يطبق النمط السريالي في أعماله. بعض رسومات دالي تشبه رسومات الرسَّام الألماني ألبرخت دورر، وفي صفحة رقم 113 في السيرة الذاتية سنجد لوحة متأثرة بأسلوب الرسَّام الإنجليزي أوبري بيردزلي، وفي صفحة رقم 269 سنشعر بأنه قلَّد الشاعر والرسَّام الإنجليزي ويليام بليك في شيء ما.
عندما فتحت السيرة الذاتية لأول مرة ورأيت الرسومات التوضيحية التي تملأ هوامش الكتاب، لم أتمكن من التخلص من إحساس أنني قد رأيتها من قبل. ظللت أتأمل صورة شمعدان مزخرف في صفحة رقم 7 بالجزء الأول للسيرة الذاتية. وسألت نفسي مرارًا وتكرارًا؛ ما الذي يذكرني به هذا الشمعدان؟ وفجأة، تذكرت؛ كان يذكرني بطبعة سوقية لترجمة أحد أعمال الشاعر، والصحفي، والروائي الفرنسي الساخر أناتول فرانس، التي نُشرت عام 1914.
حملت تلك الطبعة الزخارف نفسها التي رأيتها في صفحات السيرة الذاتية لسالفادور دالي. عودة إلى الشمعدان، في نهاية أحد أطرافه، سنرى مخلوقًا ما يشبه سمكة ملتوية، بدا المخلوق مألوفًا أيضًا؛ أظن أنه كان دولفين، وفي الطرف الآخر من الشمعدان، سنرى شمعة مُشتعلة. هذه الشمعة – التي تتكرر في أكثر من لوحة – هي صديق قديم للغاية. فإذا زرت أي فندق من الفنادق الريفية القديمة التي يدَّعي أصحابها أنها مبنية على طراز عصر التيودور، سترى هناك تلك اللمبات الكهربائية المصممة على شكل شمعة يتراكم حولها الشمع الذائب.
ومن المفترض أن تنقل لنا هذه الشمعة شعورًا عاطفيًا عميقًا … أمَّا في نهاية صفحة 62، فقد قام دالي برسم شكل ينتمي بلا نقاش إلى عالم بيتر بان. وفي صفحة 224، سنرى رسمة لامرأة لديها جمجمة طويلة لدرجة أنها تشبه السجق، أعتقد أنها تمثِّل شخصية الساحرة في كتب القصص الخيالية. وبالنسبة للحصان بصفحة رقم 234 ووحيد القرن بصفحة رقم 218 فربما استوحاهما دالي من أعمال كاتب الفانتازيا الأمريكي جيمس برانش كابل .
مما يثير الفضول في لمسات دالي «الشقية» في سيرته الذاتية، هو تشابهها الحقيقي مع الأسلوب الإدواردي في الرسم. فعندما قرأت الجزء الذي ذكرته في البداية عن ركل دالي لرأس أخته، تذكرت شيئًا مشابهًا لتلك الحادثة. تذكرتُ «أشعارًا قاسية لأصحاب القلوب الخاوية» أو Ruthless Rhymes for Heartless Homes لهاري جراهام. كانت تلك الأشعار شائعة حوالي عام 1912، ومنها التالية:
ويلي المسكين يبكي بشدة
يا له من طفلٌ مسكين جدًا
قام بكسر رقبة أخته الصغيرة
فحُرِم من تناول المربى مع الشاي.
أنا متأكد من دراية دالي التامة بميله للأسلوب الإدواردي، وهو يستغل الأمر لأقصى درجة، إذ يمارس ما يسمى في الفن «المعارضة الأدبية» وهي عبارة عن محاكاة لعمل أدبي كالشعر والنثر والمسرح والفنون المرئية، وفيها يحرص المعارضون على أن تكون جودة أعمالهم كجودة العمل الأصلي. المعارضة الأدبية بأي حال من الأحوال، تعكس غالبًا حب الشخص المعارض للشيء الذي يحاكيه وإعجابه به. فالنحَّات على سبيل المثال، يهتم بالمنحنيات والانحناءات، لكنه في الوقت نفسه شخص يستمتع بملمس الحجر أو الطين الذي يستخدمه في عمله.
المهندس كذلك يستمتع بملمس الأدوات الهندسية في يديه، ويستمتع بضوضاء آلاته ورائحة زيت الآلات. سنجد أيضًا أن الطبيب النفسي عادة ما يميل إلى بعض الانحرافات الجنسية. أمَّا داروين فجزء من السبب الذي جعله يصبح عالم أحياء كانت نشأته في الريف وحب الحيوانات. لذا، فمن المنطقي أن ميل دالي المنحرف إلى الرموز الإدواردية ليس سوى عَرَض من أعراض تأثره العميق للغاية بأسلوب هذا العصر. وربما تكون كل هذه الرسومات العديدة التي اقتبسها من العديد من الأعمال الإدواردية التي ملأ بها كل فراغ في سيرته الذاتية ليست سوى مزحة خاصة به. وربما لم يستطع دالي التوقف عن رسم هذا النوع من الرسومات التي تنتمي إلى هذا العصر، لأنه العصر الذي ينتمي إليه حقًا.
هناك دائمًا مخرج واحد لكل شيء: الشر wickedness. فأنت ملزمٌ بارتكاب أفعال صادمة وجارحة لغيرك. مثل أن تقوم وأنت في الخامسة بدفع طفل صغير من فوق جسر، أو أن تضرب طبيبًا على وجهه باستخدام سوطٍ لتكسر نظاراته الطبية – أو حتى الحلم بالقيام بمثل هذه الأشياء. وبعد مرور عشرين عامًا، قم بفقء أعين حمير ميتة بمقص. فإذا واصلت هذا المنوال، ستشعر بأنك مبدع. وعلى أي حال، الموضوع يستحق، كما أنه لن يكلفك الكثير؛ فهو أقل خطورة من ارتكاب جريمة ما. لذلك، فأثناء قراءتي لسيرة دالي، وضعت احتمالًا لكل الضغوطات التي تعرَّض لها. كان واضحًا لي أنه قد عانى من غرابة أطواره فقط عندما كان أصغر سنًا. فعندما كبُر دالي في السن، كانت فترة العشرينيات الفاسدة في أوجها؛ فكان كل ما هو معقد موضة سائدة. هكذا امتلأت كل عاصمة أوروبية بالأرستقراطيين وأصحاب الأملاك الذين توقفوا عن الاهتمام بالرياضات المختلفة والسياسة، والتفتوا إلى رعاية الفنون. أي أنك إذا ألقيت الناس بالحمير الميتة، فسيلقونك بالمال. وعندما انهار هذا العالم في أوروبا أمام زحف الجيش الألماني، وقفت أمريكا في الانتظار؛ وانتقل الجميع من حمى الصالونات الراقية إلى حضن “أبراهام لينكولن”.
إذًا، ربما يكون ما كتبته هنا ملخصًا لتاريخ دالي. أمَّا الأسئلة المتعلقة بسبب سهولة تسويق تلك الفظائع – مثل الجثث المتعفنة – لمجموعة بشر معقدة، فسيجيب عليها النقَّاد من علماء النفس والاجتماع … لكنني ما زلت أريد اكتشاف سبب ميل دالي لـ«اشتهاء الجثث»، ولن أقول هنا: الشذوذ الجنسي، ولماذا قد يشتري الأرستقراطيون وأصحاب الأملاك لوحاته بدلًا من الخروج في رحلات صيد وممارسة الحب كما اعتاد أجدادهم. إن الاعتراض الأخلاقي وحده على كل هذا لا يكفي، لكن هذا لا يعني أنه علينا التظاهر بأن مثل تلك الصور: «مانيكان متعفِّن في سيارة أجرة»، لا تمس الأخلاقيات، فهي أعمال مريضة حقًا، ومقرفة، وأي تحقيق أو دراسة لها يجب أن تقوم على أساس تلك الحقيقة.